السبت، 6 فبراير 2010

الشاعر عبد الرحمن عفيف لوحة المكان والحب والألوان



عبد الستار نورعلي
sattarnoor42@yahoo.se



أردتُ أن أصمت وأنظر إلى الناس
وهم يتكلّمون وأمامهم فناجين القهوة الساخنة
وأمامهم طاولة تناسب المقهى
وفي الخارج المساء الذي يناسب موقف الترام الأزرق
والأبيض الآن حينما أفكّر فيه
أردت أن أصمت وأراقب الترام الأبيض الذي سافر
في الثلج وترك الناس في المقهى وهم يدخّنون
ويشربون القهوة ويضحكون ويلغطون


هكذا يطل علينا الشاعر السوري الكردي الذي يكتب بالعربية عبد الرحمن عفيف في شعره متعلقاً بالمكان/البيئة ملتحماً بالناس في حياتهم ومسيرتهم اليومية ملتقطاً صور الواقع المعاش بكل مافيه من لوحات بسيطة المشهد لكنها عميقة الغور الايحائي في معنى الحياة بكل نبضاتها اليومية الصغيرة التي تنحت في الروح لتصوغ منها ارهاصات تخييلية في المضامين الشعرية، وذلك خلافاً للملتقط الشعري البعيد عن واقعية التجربة التي هي المغذي الغني بكل مافيه من فيتامينات اللقطة الفنية المنتخبة بعناية الصائغ الماهر في حرفية عالية متمكنة من أداتها.

عندما يحول الشاعر عفيف اليومي في حركته الى مصاف البرج القصائدي العالي الدلالة ويلقيه على عربة الشعر المنطلقة بأجنحة الخيال والأحاسيس والتطواف في فضاء مملكة الحرف وباتقان فني مشهود تصبح اللوحة المرسومة بريشة الروح والكلام الجميل المنتقى بعناية والمغمس بموقد التجربة المتوقدة، والخارج عن رداء الكلاسيكي بمفهومه القديم والجديد المعاصر الذي أمسى هو أيضاً كلاسيكاً يحاول شعراء اللحظة الراهنة الخروج عن خطه ونزع أرديته الهفهافة التي أصبحت حملاً ثقيلاً على روح الفن بمفهومه المتجدد الدائم الرامي الى خلق كل ماهو مثير للدهشة والمتواصل مع التقدم الحضاري دون التخلف عن ركبه السائر الى الأمام، وبثقافته الحاضرة المهيمنة على كل مناحي الحياة ومنها الفن بمختلف أشكاله.

المتوغل في شعرية عبد الرحمن عفيف يلمس صدق التجربة وحرارتها، وعمق الأثر لحياة المدينة والقرية التي ارتشف نبضها اليومي، وغرس روحه في جذورها الممتدة في كل خفقة قلب وهمسة صدر والتقاط عينين. كما احتسى مشاعرها التي حفرت أخاديدها في صدره فامتزج بها وبنبضاتها وزواياها وأزقتها:

عامودا تأكل من يدي حبّة السنبلة التي أتيت بها من عامودا
والقامشلي تأكل من يد عامودا حبّة الوردة التي أتيت بها من القامشلي
أو من عامودا وبينهما
بين حبّة السّنبلة وحبّة الوردة التي في الشّارع
غير مرميّة
على أسطح الجيران
على أسطح لجيران.

السلّم صعده قمر
قمر يرحل على السّلالم كلّ مساء
وصعد إلى سطح البيت
ماذا ترى من وراء الجدار
وماذا تفكّر في مربيات الجيران.

لو كانت يدك الصفراء

على سور حديقة القامشلي
لقلتُ أنا حديقة القامشلي ويدك حديقة القامشلي
وخبزي حديقة القامشلي وجسدي هو فرن القامشلي الآلي
الذي بغير آلة سوى ذكرياتي العاموديّة
كأنّها آلات في فم الفرن الآلي الذي صار حديقة
القامشلي الآلية.


هذا المزج بين الذات والمكان والمشاعر المتأججة هو مادة شاعرنا المفضلة والطاغية على شعره. ففي كل قصيدة له عودة الى المدينة التي نشأ فيها وترعرع وعب رائحتها بحواريها وبيوتها وحدائقها وجسورها وأفرانها وحرارتها وناسها ولهيب المشاعر الأولى للحب والهيام والذوبان في هدير الرغبة البكر المؤججة للتوق والموقدة للذة العشق اللاذعة بكل ارهاصاتها وشدها العاطفي ونصال الحرمان:


حنفيّة الموسيقى
كيف أعطي أنفي في قصّة حبّ
أنتِ بطلتها على السطوح
لا تتنازلين برمي فستانك لي من فوق السماء
التي لستُ تحتها،
إنما بقرب حنفيّة طائشة
سالت طوال الليل بالموسيقى
التي كانت حبّي لك في المدرسة
وتحت أشجار الصنوبر المتطيّرة في الغبار.

إنه حتى في غزلياته يفتح عن الأمكنة التي عايشت معه احاسيسه شذاها المغمس بأنفاس الناس، لنقرأ فيها عمق الصلة بينه وبينها بحرارة وألفة وعمق وبشكل يجعلنا نحن أيضاً نعايش نبضها فنعوم معه في بحرها المضطرب بألوان الأحاسيس الانسانية، ونتعلق بها أمكنة نألف وقعها ونسمع أنفاسها ونشم رائحتها ونعيش حياة ناسها البسطاء بكل معاناتهم اليومية ومفجرات آلامهم. فكل جزئية من خارطة المكان/البيئة الجغراجتماعية هي اطار يلف الروح بغلالة من السحر الكامن خلف الكلمات:

صوت الرّاديو
صوت المقبرة
صوت البئر
صوت المرأة الحيّة
لها خمسة أولاد
صلّى فيها زوجها السكّير
زوجها السكّير
في النّوم
يزور المقامات.

هناك شيء وطيد الوقع والتجذر في نفسه بحيث لا ينفك عن كل تجربة نتلقاها في قصيدة يفجرها، فإذا رائحة المكان والبيوت والأطعمة والناس في حركتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية وتقاليدهم النابعة من طبيعة البيئة التي يحيون فيها، والتي تتجذر أصولهم ومشاعرهم في تربتها، فيجسدها لنا عبد الرحمن عفيف بحميمية ودفء وصدق تدخل النفس بلا استئذان وكأننا كنا نحياها معه:

حنين الغيمة
عشت في حديد اللعبة التي دارت في القامشلي
صنعها زوج خالتي البيضاء من الأعراس والأحزان.
خالتي بعكّاز حماتها على ظهرها
طاردت الغيوم البليدة وضربت زوجها ونامت.
أنا نمت أيضا مثل خالتي على الغيوم
البيضاء وأحيانا البنفسجيّة قبل الغروب
وخرجت شخصا يختلف عن لعبة دوران الحديد
وركض الغيوم أو
انهيارها على الشارع من الحنين.

كما أنه يمر في شعره المكاني/الانساني على ذكر كل ما تحتضنه الجغرافيا من أشياء في الطبيعة ومن مناخ موحٍ بكل أحاسيس الشاعر في تمثلها في صوره المتواترة بشكل تلقائي يعطي الانطباع المضمون في تجربته الشعرية لدى المتلقي المعتاد على أجواء عفيف الشعرية واستبطاناتها للحظة الخلق في استقراء مؤثرات التكوبن الابداعي عنده. كل صغيرة في ظاهرها كبيرة في ايماءاتها الالهامية الموحية، لتأخذنا الى فضاء رحيب من شاعرية متميزة بأدواتها التخييلية وقدراتها التعبيرية والتصويرية والتأثيرية:

وشجرة سامقة في حوش

الجيران تزوّجوا على الشّجرة وحول الشّجرة المصابيح
أضاءت لشتاء طويل مع الثّلج والبرد والأمطار والمعاطف
والأغصان الصّغيرة أو العشب يبس على الفرن
وفي الحوش قنفذ وولد صالح لوالديه
تعني المصابيح لي الكثير
أتعلمين أيّتها الخنفساء تحت الحصير.


هذه العلاقة بين عبد الرحمن عفيف والبيئة والناس البسطاء تصل به الى حد هوس الانغماس في كل تفاصيلها اللحظوية الدقيقة، حتى الأطعمة والمواد لها حيزها الايحائي في شعره مما يتمثل لنا كصورة من صور البيئة التكوينية للحالة الابداعية لحظة خلق القصيدة وعلاقتها بما في نفس الشاعر من الاحاسيس المتوطنة وفي شوق جارف وحنين ناشب ازميله في نفسه ليستخرج مافي الداخل من خزين تصويري ملتقط لكل لوحات الطبيعة والناس الذين عاشرهم وعايشهم وامتزج معهم فصاروا كلاً في واحد داخله وشعراً يتدفق لحظة أن يرى متنفساً وبتفصيل تعبيري بالاحاسيس الجياشة ورسم اللوحات بالكلمات:
وعامودا في غبار المساجد
تحت حافّة نهرها
وصيفها المتسمّم
بقع السنونو المتحيّرة
على السّطوح
البرغل لم يأكله
التنوّر الوحيد في البريّة
وانحدار وادي" دودا".

حبّ من الفستق والباذنجان
والتبّولة والعطر الكسيح
قلبي من بصل وبطاطا وجزر
شعري فليفلة وريحان وبعرور
فمي ويدك دبس وفستق
وشراب أخضر
لأننا في الرّبيع.

في قصائد عبد الرحمن عفيف مساحة شاسعة للحب الأخاذ الذي قضى منه وطر الشعر ليتحفنا بنجوم العشق المنبثقة المتلألئة من خلال الكلمات، الخارجة من أعطاف جوانحه ناراً تلتهب وحكايات مضمخة بأريج عاطفة الحب الأول ، وعنفوان اللهاث خلف الأنثى المشتعلة بكل تكوينات الاثارة الحسية والعاطفية:

وشمسيّتك مثلك

تضربها ريح وتقلبها
على الشّارع الممطر وتخجلين من ساقيك البيضاوين
وفخذيك البيضاوين وثدييك وابطيك ونرجستك النرجسيّة
وشمسيّتك الانقلابيّة
ومظلّتك هي شمسيّتك الشّمس خرجت
ببساطة وقليلة
من خلف السّحابة البيضاء
ثديك
أبيض
مثل
ثديك
الأبيض
وجدار الفقراء في حارة الهلاليّة
عاشق مهبول.

يصوغ الشاعر من عاطفته ايقاعاً غزلياً معاصر الايقاع والتشبيب المقترن بالحرارة التي تصعد في أروقة الجسد لتثير مكامن الارتباط بأجلى صور التعبير والعنفوان الرغباتي:

حنفيّة الموسيقى
كيف أعطي أنفي في قصّة حبّ
أنتِ بطلتها على السطوح
لا تتنازلين برمي فستانك لي من فوق السماء
التي لستُ تحتها،
إنما بقرب حنفيّة طائشة
سالت طوال الليل بالموسيقى
التي كانت حبّي لك في المدرسة
وتحت أشجار الصنوبر المتطيّرة في الغبار.

الحبيبة التي لا يفهم كنه سرها الأنثوي إلاه، هو المكتوي الذاوي في بئر النار المشتعلة في كيانه من كيانها الذي التذت بوقع لسعات جمره كل الزوايا والأرجاء والعشب والشمس والقمر والليل والنهار والأرض والسماء والغجر والحضر:

آخ أمينة

لا يعرفك الغجر ولا الحضر
لا الخابور ولا الضّجر
لا النّهار ولا اللّيل ولا الغسق
لا العشب المتبرقع
لا القمر المتسطّع
يا زبيبة حامضة
خلّفها اليانسون السكران
فوق شبّاكنا في العصر المنبّه
والشّمس الشّديدة
قالت أسرارها وقال المطر عيونه
أثناءها وبعدها
وهطل وهطل الذي لا يغتفر
من الحبّ
والحبّ وجمع الشّمل والنّمل
وكلاب الغجر.

إنها أمينة تلك التي أشعلت في صدره حمى العشق في تلك الأزقة المشغولة بالعواطف الانسانية حلوها ومرها، وتأججها ورقتها. فاكتوى بأحاسيس غذت شعره بكل ما يفجر من تجارب مرت وهو يعتلي خارطة المكان بكل تفاصيلها الدقيقة، ليرد اسمها على لسان قصائده بما أنزل الله من سلطان الشعر وشياطينه:

صدت العصفور في اللّيلة قبل هذه اللّيلة
وأعطيته ثدي أمينة الأيمن أمّا الأيسر فتقاسمته
مع السنونو الذي نام نوما طويلا
طوال اثنتي عشرة سنة نام السّنونو من مدينة
الدّرباسيّة وبعضهم قال إنّه كان من عامودا
وآخرون إنّه من المقبرة والمسلخ وآخرون
إنّه لم يكن السّنونو المعتبر الأسود
بل الأبيض وهو ثمن ثدي أمينة الأبيض الأيمن.
أكلت الثّمن دون اعتبار للدائنين

ولنقرأ له أيضاً في أمينة:

نسيتني أمينة

على حصان ميّت بالقرب من نهرالخابور الميّت
ورجعت أمينة زهرة صفراء "العندكو" إلى بيت
إلى قرية تحت الخابور الميّت كحصان ودربكّة
ودبكة.
خنجر وخنجر وسلسلة خرزة العنق
الفتيات الألوان الكرديّة
نقش على أذن الخابور
وبطنه الضجر.
نسيتني أمينة.

إن كانت امينة قد نسيته، إلا أن ابداعه وفنه قد اكتوى بنارها واعتلى نجوم صدرها نبعاً متدفق الدوام من الشعر الغني بكل ما يسمن التلقي والقراءة والاستمتاع، ويلهب الذائقة ويفجر الاحاسيس، ويخلق الصور، ويمد المخيلة بأجمل ما قيل في العشق، وأبسط ما عبر عنه بالكلمات. وهو ما يمتاز به شاعرنا من التقاط اللغة اليومية بكل بساطتها وأخيلتها الواقعية التي يرفعها الى مصاف التخييل العالي، والصور النابضة، واللوحات المرسومة بريشة الكلمات المجنحة التي تحلق بنا الى أعالي عرش ربة الشعر بكل ارهاصاته ومؤثراته وجماليات التعبير بالبساطة المرتقية الى بلاغة متجددة الأسلوب والصياغة.

يعمل الشاعر عبد الرحمن عفيف على تفكيك الصياغات التقليدية في العلاقات اللغوية المتوارثة، وفي بلاغتها المجازية والتشبيهية والمنهجية التواصلية المتسلسلة الايقاع والحدث، والمرتبطة المعنى في المشترك النعتي الوصفي والتلاقي التشبيهي ووجه الشبه وما شاكل من مصطلحات. ولنأخذ الآتي مثالاً:


نسيتني أمينة

نسيني الشّارع الذي مرّت فيه
والدكّان الذي نظر إلى فستانها الذي اشتراه الجسر
والصرّة المعلّقة على عينيّ
كلّها
كلّها
وصلاة في فنجان
على سطح المساجد
والصّلوات
صلوات البقدونس المفروم
من أحشائه إلى أحشائه.

فحين القراءة الأولى للنص يمر بخاطر المتلقي تساؤل هو: ماالعلاقة بين كل الصور التي يرسمها لنا الشاعر؟ الدكان الذي نظر والجسر والفستان والصرة والصلاة في فنجان والمسجد والبقدونس والاحشاء؟ يقع المتلقي لأول وهلة في ارباك تخيلي لجمع الصورة التي تبدو مفككة الآجواء، حيث لا علاقات بين الأشياء والمجازات والصور العديدة لخلق لوحة متوحدة الأجزاء في تسلسل عضوي مطلوب في فن القصيدة. لكننا حين نتوغل داخل التشكيل المتعدد للنص نجد وحدة في التجربة من خلال محيطها الملتقط وتحت سقف العاطفة المكتوية بنسيان الحبيبة للحبيب وبذا نسيته كل جزئيات الجغرافية التي جمعتهم وألفت العشق الذي اشتعل في القلب ثم اختفى لتختفي الخارطة التي خطت خطواتهم وعاشت كل ما كان يتفجر من الصدر من ملتهبات الحب. وهذا يتطلب معايشة ما خلف النص وتلقي تأثيره بدايةً من دون الرجوع الى ظاهره الشكلي، لأن النظر الى الظاهر الشكلي أولاً يقتل الباطن إذ يفككه من تداعيات التجربة ومفجرات الأحاسيس التي أججتها. وذلك حين ننظر بعين المنهجية الدرسية الى النص الابداعي الذي يتطلب المعايشة قبل التفكيك والبحث عن الأدوات، والتي هي مهمة المفكك وهو الناقد والباحث والدارس.

قراءة الشعر تفترض الدخول الحسي الى عوالم القصيدة والتجربة الشعرية لحظة الخلق أولاً، ثم النظر والبحث في التفاصيل الشكلية التي استخدمها الشاعر في ايصال ابداعه لاحداث الأثر المطلوب، وبأي شكل ولغة كان، ومدى نجاحه في ذلك.

يمكن لنا أن نعتبر ما يمتاز به عفيف في هذا الجانب هو تجديد لغوي في بناء قصيدة متجددة من خلال خلخلة العلاقات اللغوية بمألوفها البلاغي والتصويري قديمه وجديده والخروج على الفضفاف التعبيري المترهل في حشد لغوي من تشبيهات ومجازات وأساليب بيانية. في حين نجد اختزالاً في لغة عبد الرحمن عفيف وصوره اللماحة المكثفة والمركزة والمعبرة عن عمق في الصورة والتجربة واتساع في مساحة المضمون المعبر عنه، ولنقل ببخل في اللغة مع ثراء في التخيل والصورة. وهو ما يجعله خارجاً عن اطار روتينية العلاقات اللغوية وجمودها وثباتها على نفس النسق التاريخي المنهجي:

حبّ من الغبار
رأسه على تلّ شرمولا
رجلاه صفراوان
في الآبار.

في الشبّاك رأيتك
ذات ربيع
الرّبيع كان الولد الصّغير
يشتري العلكة لك
ويبقى في الشّارع
أمّا شعرك
في النّافذة
إلى الصّباح.
ولنقرأ له أيضاً:

المزهريّات

أين تضع المزهريّة أعباءها
من الفساتين والمكاحل الأرجوانيّة والبيضاء والبنفسجيّة والخضراء
والصفراء والمرأة الصفراء وأختها الخضراء وابنة عمّتها حبّة الزيتونة
وابن الخال الضالّ الذي فتّشت عنه الفساتين والمكاحل
واللفاح الدافئ والزعفران المنتشي
كلّ هذا في أنفي المغروس جيّدا على مزهريّات
الغرباء والأصدقاء.
إلى أين أيتها المزهريّات


يستخدم الشاعر في قصائده اللون بشكل ملفت، وهو ما ينبع من تأثيرات البيئة الجغرافية والطبيعة، وتاثره بالألوان ودلالاتها المعنوية ليضفي على شعره صورة اللوحة المرسومة الموحية باللون بعيداً عن الايضاح والاستطراد الذي يؤدي ربما الى ضعف في الصورة الشعرية، وذاك الى جانب المشاعر الحارة وبطيف من الجمال:

نوروز أصفر وعشب أحمر قبل النّوروز
الذي هو نيروز أبيض قبل المطر الأخضر
فوق المدرسة البيضاء من اختفائنا
معا
أنا وأنت
وجدار مدرسة المعرّي الأصفر
سياج يسبح في الهواء
منذ ذلك الوقت
منذ رقبة صفراء إوزّة الوقت
ورقة اسمنا الفضيّ
الرّيح
الرّيح من بين طيّاتها.

وحين نجمع الألوان هذه في النص أعلاه يمكن لنا ومن خلال ذكره لعيد النوروز الكردي أنها اشارة الى العلم الكردي بألوانه وخاصة من ملاحظة هذا التعلق الشديد والكبير والعميق بالأصل الكردي وبالأرض التي ولد وعاش وترعرع فيها، عامودا، الدرباسية، القامشلي وهي مدن كردية سورية، وكمثال على تعلقه هذا يقول:

نسيتني أمينة

على حصان ميّت بالقرب من نهرالخابور الميّت
ورجعت أمينة زهرة صفراء "العندكو" إلى بيت
إلى قرية تحت الخابور الميّت كحصان ودربكّة
ودبكة.
خنجر وخنجر وسلسلة خرزة العنق
الفتيات الألوان الكرديّة
نقش على أذن الخابور
وبطنه الضجر.
نسيتني أمينة.

إن الشاعر عبد الرحمن عفيف صوت شعري متميز، يتدفق بالمكان والمدن والأزقة والبيوت والأشياء التي عايشها وعاشر نبضها ونبض الناس اليومي بكل ما يعانونه ويحيونه من مشاعر وتجارب وآلام، وهو يرتدي العشق والعنفوان والألوان والذكريات أردية مثيرة مدهشة الايقاع والفضاء رائعة الأجواء. كما أنه يمتاز بالتكثيف التصويري والاختزال اللغوي والخروج على المألوف البلاغي، ليحدث صدمة شعرية شعورية لدى المتلقي فيغوص معه في باطن تجربته. إنه صوت شعري متفرد من خلال كل ما مررنا به من خصائص يتميز بها من غير تلاقٍ أو تناص مع غيره من الشعراء أو تقليد. إنه إمارة تجديدية معبأة بالشعرية الخلاقة، وفنان تشكيلي يرسم لوحته بالكلمات ويلونها بحرارة الأحاسيس وثراء الأخيلة. إنه محيط من الدهشة والصدمة الشعورية.


عبد الستار نورعلي
السويد
الخميس 29 مايس 2008

الثلاثاء، 26 يناير 2010

تركتها لأنها تركتني

تتركيني لأني مفزَع بلا جناح يضحك
هذه عادتي : أن تساعديني كي أختفي وأترك المكان لشرودي
أختفي بلا ثروة أو عشاء حقيقي للكتابة
أنا
مفزّع
لأني أبدأ من الرغبة لشيئك البدائي
وهذا ما هو المؤسف لأشياء بدائية أكثر
أقف
هنا
لأني بحاجة إلى درب هناك
إلى كائنات تسألني عن جناحي الذي ضربه الطوفان
فتحطم الهواء نقطة نقطة على معصمي
أمسك بك
لأنشر جسمي أخطبوطا
أسلكك من الطرف الذي يحلم
أهاجمك من الطرف الذي يناقضني و يتبعني كمسافر تدهشه حيوانات لاتدرك الطيران
أتركك
تفكرين بالنساء مثلي
تتأسفين على صيادي السمك الذين يبلعهم الشعر بين فينة
و أخرى كأنهم مصنوعون من الطين
لا أحد
يفهم عادتي في الكتابة إليك
لهذا لا أكتب إليك إلا و أنا أبدأ من يدك الأولى و أنتهي باليد الثانية
اليد التي أخّرت كي لا تبدأ أبداً

.ابراهيم حسو

الاثنين، 11 يناير 2010

مقال

محمد بيجو: كتاب “الهواء الذي أزرق”، هو المجموعة الشعرية الأولى للشاعر السوري إبراهيم حسو التي صدرت عام 2003. بعد رؤيتها النور بأيام تعدّ على أصابع اليد الواحدة سحب حسو أعدادها من المكتبات ومنازل الأصدقاء وبيوت الجيران ليحرقها أمام جمهرة من الصحافيين والكتاب، الأصدقاء منهم والأعداء، سائلاً الجميع أن يسامحوه على إصداره لهذا “الديوان التافه” بحسب قوله، ثم كتب بياناً يعتذر فيه من القارئ على كل ثانية أضاعها من وقته الثمين بقراءة المجموعة الشعرية المذكورة. بعد ستة أعوام بكامل شهورها من التردد، يجازف إبراهيم حسو بطباعة ديوانه الشعري الثاني، “الضباب بحذافيره” (دار الزمان). هو لم يعنون شيئا في هذا الديوان، مكتفياً بكتابة الضباب بحذافيره بخط أصفر شاحب على غلاف أخضر، مطلقاً بين طياته نصوصه هكذا شريدة. ما إن ينتهي نص بنقطة أو إشارة تعجب أو استفهام، حتى يبدأ آخر بحرف من حروف العربية، وقد كتب في المقدمة: “النصوص صالحة حتى 2015″. يكتب إبراهيم حسو بعيداً من لغة الحب الرقيقة والهادئة وقريباً من لغة الحجارة، لغة الاختلاف والصراخ والضجيج الذي تخلّفه عادة المواقف السلبية واللاضرورية في الحياة. كأنه شاعر يحمل أزميلا ومطرقة بيديه. ينحت على ورق بدل أن يكتب، كتغيير يبتغيه الشاعر للسائد والمطروح على انه شعر، خيالاً وصوراً تظل نائمة لا تحرك ساكنا. هنا الشاعر في طور تجربة شبه جديدة تقترب من السوريالية بحدّ، وتنفصل عنها بحدود أخرى. ربما يفشل أو ينجح، لكنه يقدم ما يمكن أن نطلق عليه شعرا جديدا بخيال لا يشبه خيال الشعراء العاديين المدافعين عن اللغة والأصالة: “كنت ألعب بالنسيان في حقل لا أسند ظهري إليه في ينبوع عاصف يستهويني ثمره كنت لا أسأل أحداً عن أبي الذي تشعّب وصار ذئباً أو أمي التي تئن كما هذه الجياد تحت حنين جارف كنت سأبقى إلا إنني مضيت”. في بعض نصوص حسو، تغيب الفكرة تماماً لتبقى الحالة وحيدة بلا سند، مذهولة، لا شيء ينقذها من موت أكيد غير الخيال الذي لن يتعب في ترتيب الصور التي يشاهدها الشاعر، لأنها تكون في متناول العين. صور لا تشبه السائدة والتي ترد في قصائد الشعراء. هناك همّ وحيد، همّ المحافظة على الشعر. كأن شياطين الشعر تجتمع وتنتخب حسو ليحاول أن يتدرب على شعر غير عادي. لذا هو يخلط بين الحبيب والشعر، كما هي الحال في الكتابات الصوفية عادة، بل ويتجاوزه في أمره، حتى ليفضّل الكلمات وعشّاقها على المرأة. قارىء “الضباب بحذافيره” يصيبه نوع من هستيريا شعرية. يضحك ملء قلبه مقهقهاً بصوت يوقظ الميت حيث يرى طيوراً بأجنحة من خشب وآباء يتحولون اسفنجات وقواقع بحرية وأمهات على هيئة أشجار وأقمشة من الهند والصين الشعبية. لكنه، بعد جملة أو أكثر بقليل، يدفن وجهه بين يديه، أيضا ملء قلبه، ليوقظ هذه المرة خياله النائم بعمق، من السرد الشعري المترابط بين مألوف ونادر، وكأن شاعرنا يقيم علاقات ويبرم اتفاقات بين كل شيء في هذا الكون: “تلك الحجارة التي كأنها من قماش هندي قد تذوب في يديك في أية لحظة حب ذلك الطير الخشبي على ما أظن قد تطول إقامته في يديك في لحظة شعر طائشة أنا القائد المنهار دائما في يديك”. يهدئ ابراهيم حسّو من روع القارئ بعد أن يهدده بشعر ملغوم وبنصوص مفخخة تنفجر في كل لحظة، مخلِّفةً ضحايا. لن يسقط ضحية انفجار شعره، غير أولئك الذين يكرهون وبشدة كل المحاولات التي قد تجعل الشعر متجددا ومتألقا بشكل دائم. فقارئ حسّو نموذجيّ نوعاً ما، لا يشبه قراء “صفحة التسالي” (التسليات) عادة. هو قارئ مفكر، قلق دوماً على الشعر ومصيره المجهول. كأنك تقرأ مذكرات رحالة لم يغادر مكانه، على مفترق طرق طويلة وشاقة يأتيه زوار من أماكن عدة بحالات غير متشابهة ليسرد الجالس مكانه اللحظات والمواقف التي مر بها الضيف وهو في طريقه إلى مكمن الشعر الحقيقي وولائمه العامرة. يقدّم حسّو اللذة التي يريدها القارئ لنفسه ولذائقته الغريبة، والنصيب الأكبر لهذا الذي لا يريد للشعر أن يستريح. فالشعر عنده كائن لا يتعب من الحركة بل على العكس من ذلك. هو شاعر أمين لا يختزل شيئا، يروي ما يراه، عمدا كما هو. كل المواقف مهمة لديه، حتى تلك التي تُنسى في لحظتها ولا تبادلها الذاكرة وداً. يدوّن كمؤرخ شريف الحوادث التي تمر به أو يمر بها، بطريقة تليق بالشعراء فقط. يدوّن ويختبر اللغة كما تختبره هي بدورها، في عراك شبه جنوني. هو الخاسر غالباً وهي الفائزة أحياناً، وذلك كلّه في مصلحة الشعر، رصيداً ونقاطاً.

--------------------------------------------------------------------------------

السبت، 9 يناير 2010

تقد

2010-01-10 00:00:00 خِفّة النقد التي لا تحتمل / تمام التلاوي

تعليقاً على مقالة تهامة الجندي: نصوص سجينة

من المثير للغرابة حقا أن تصدر مقالة نقدية من الكاتبة والباحثة تهامة الجندي على هذا الشكل الذي صدمني قبل أيام عندما وصلتني المقالة. المقالة بعنوان: نصوص سجينة, وتقدم من خلالها رأيا حول سلسلة المجموعات الشعرية الإثنتي عشرة الفائزة بمسابقة إحتفالية دمشق عاصمة ثقافية للشباب, وقد نشرت في مجلة الكفاح العربي. حاولت ألا أرد عليها كون المقالة مكتوبة منذ شهرين أو أكثر تقريبا, وهذا ما استطعت عمله سابقا بالنسبة لإحدى المقالات المنشورة في جريدة الحياة حول المجموعات, لكن المسألة تختلف هنا, فكاتب مقالة الحياة الذي نقدره ونحترمه كثيرا كمترجم وإعلامي, نعلم تماما سقفه النقدي ورؤاه الشعرية التي تنطلق من بواعث وخلفيات معينة, ولذا فقد استنكفنا عن الرد, ولا غرابة فيما كتب. أما بالنسبة لتهامة فقد استغربت حقا وقوعها في نفس المطب الذي وقع فيه صديقنا في الحياة, وهو قراءة المجموعات الإثنتي عشرة بشكل شمولي كمن يعطي رأيا في "شوال" من البطاطس أو "سحّارة" من البندورة, متغافلين أو غافلين عن أن هذه هي مجموعات شعرية مختلفة لاثني عشر شاعرا وشاعرة مختلفين أشد الإختلاف في طرائق كتابتهم, وأن لكل مجموعه عالمها المستقل وصياغتها الفنية الخاصة بها, ولكل شاعر من هؤلاء عالمه وقلمه وأحزانه وانفعالاته وأسلوبه وكيانه الفني والأدبي وتجاربه الثقافية والحياتية التي لا تتطابق بحال من الأحوال مع الآخر. هل أصبح الفن يقرأ بهذه الطريقة من الخفة؟ هذا السؤال أطرحه بجدية على العزيزة تهامة الجندي التي تعاملت باستخفاف واستعلاء واضحين مع اثني عشر شاعرا بمجموعاتهم التي أنفقوا عليها سنوات من الجهد الفني والوجداني.

تستهل تهامة الجندي مقالتها بالقول: " وتبدأ مفارقة المسابقة منذ عنوانها المنحاز والمتعالي بلا أرضية موجبة لإعطائه امتيازا خاصا بفئة عمرية دون سواها: الشعر للشباب، في حين يشير واقع الحال إلى أن الشعر هو آخر اهتمامات شباب اليوم، إن كان على مستوى القراءة، أم على مستوى التأليف، وربما لهذا السبب لم تحظَ المجموعات الشعرية الفائزة بأي قراءة نقدية جادة من قبل الإعلاميين الجدد". انتهى الاقتباس, ولا أدري في الواقع على أي احصائية اعتمدت تهامة لتقرر أن الشباب لا يقرؤون ولا يكتبون, ولو أنها دخلت إلى أي نشاط أو تجمع ثقافي لكفتها نظرة واحدة على الحاضرين لترى أن أغلبهم هم من الشباب, وبغض النظر عن هذا فإن العديد من الإعلاميين "الجدد" أيتها الإعلامية القديرة كتبوا عن المجموعات, ومنهم على سبيل المثال لا الحصر محمد ديبو وابراهيم حسو وعلي جازو وإيلي عبده وغيرهم, ولست أدري ماذا تعني بكلمة "جدد" هل تقصد أنهم يصغرونها سنا أم أنها طريقة استعلائية أخرى لخطابها الذي لم يبق ولم يذر أحدا إلا ونال منه. وعلى كل حال فقد قرأ هؤلاء الإعلاميون المجموعات بشكل أكثر احتراما للشعر وأكثر تقديرا للشعراء, حيث كتبوا مقالات مستقله مخصصة لكل مجموعة على حدة, محترمين تجربة كل شاعر ككينونة قائمة بذاتها لها ما لها وعليها ما عليها. ولا ننسى أيضا ما كتبه راسم المدهون عن المجموعات في جريدة النهار, وإن لم يكن بالطبع إعلاميا جديدا, ولكنني أذكره هنا لعل تهامة ترى كيف يتعامل الإعلاميون المخضرمون مع التجارب الإبداعية. ثم ما المشكلة في أن تخصص الأمانة مسابقة للشباب؟, أم أن تهامة تحب أن تبقى التجارب الشابة في الظل لتبقى واقفة على أعتاب تمجيد التجارب الكبيرة.

المثير للغرابة أكثر هو قولها التالي: "المفارقة الأخرى سوف يكتشفها القارئ المطلع على التجارب الشعرية السابقة للمسابقة، حين لن يعثر على أي مقترح جديد في كل ما قرأ من صفحات هذه السلسلة التي يربو عددها على الألف". انتهى الاقتباس. نعم لم تستطع تهامة "المطلعة" أن تعثر على أي مقترح شعري جديد, على مدى ألف صفحة, وكأن هؤلاء الشعراء الذين لبعضهم تجارب أثبتت حضورها منذ البواكير, ومنهم من له مجموعات سابقة فازت بأكثر من جائزة وخضعت لمختلف أذواق لجان التحكيم على مرموقية أسمائهم وتعدد أمزجتهم الشعرية والنقدية, لم يكونوا يكتبون سوى خواطر في صفحة بريد القراء, ولم تحظ تجاربهم بأي تقدير "لمقترحهم الشعري الجديد" الذي تفتقده تهامة بأسى طوال ألف صفحة من عناء القراءة. لكن غرابتنا ستزول إذا ما ارتأينا أن تهامة ولا بد قد قامت بقراءة المجموعات على ما يبدو بنفس الطريقة التي كتبت عنهم, أي بطريقة سطحية وسريعة, وإلا لما قالت ما قالته بتلك الشمولية والتعسف.

ثم تتسائل تهامة بحسرة: " فما هي قصة المقترح المغاير المزعوم؟" وأجيبها هنا: إن كان لديك يا تهامة موقف شخصي أو ثقافي من اللجنة المنظمة أو أحد عناصرها فلا يجوز لك أن تنالي منهم عن طريق هذا الاستخفاف بالمشروع وبالتجارب الشابة, بل لتقفي أمامهم وتنتقديهم بشكل واضح وموجّه وجريء دون هذا الالتفاف.

تأتي بعد ذلك للتحدث عن الخواص الفنية واللغوية لاثنتي عشرة مجموعة دفعة واحدة وبثلاثة أسطر فقط, حيث تعلق: "في الغالب يقوم البناء الشعري في مجموعات السلسلة على مبدأ التداعي والتناسل اللغوي والتجريب، بحيث تحتشد الموضوعات بلا مبرر، وتفقد القصيدة وحدتها العضوية، ويصعب الربط ما بين دلالات الاستهلال والخاتمة. وكثيرا ما يعتري القارئ المطّلع شعور بأن الفضاء الشعري العام لم يتولد من حالة الشاعر الذاتية، بل من خلال التماس والتناص مع نصوص موازية". انتهى الاقتباس. ويا إلهي حقا.. ويا للجرأة.. كيف لها أن تتحدث بكل هذا الاستعلاء وكل هذا التعميم والشمولية على اثنتي عشر عالَما يختلفون تمام الاختلاف, في الشكل والموضوعات والأسلوبية والمؤثرات الفنية والشعرية. كيف استطاعت أن تكيل الخصائص الفنية للمجموعات كمن يغرف ملعقة من الرز في منسف تتماثل فيه حبات الرز واحدة مع الأخرى؟. هل هكذا يا تهامة أصبحنا نتعامل مع الشعر والشعراء, هل هكذا يجدر بنا أن نتحدث حول الفن؟.

في نهاية مقالها تستطيع تهامة مشكورة أن تشيد ببعض ما جاء في مجموعتي فيوليت محمد وسامر اسماعيل, دون أن تنجو بالطبع من نفَسها "المتعالي والمنحاز" -وهنا أستخدم المصطلحين الذين استعملتهما في وصف مشروع المسابقة- حيث لا تتورع عن التحدث عن تجربة سامر اسماعيل الجميلة بوصفها "حالة توتر تنتهي بالبوح" إنما "لا يأتي بقصد ادعاء الاختلاف", وذلك لأنها لا تريد أن تقول عن مجموعة مهما كانت مختلفة أنها مختلفة, ولا تريد أن تتخلى عن طريقتها في الوقوف أمام المجموعات وكأنها معلمة تقف أمام اثنتي عشر تلميذا, يطلبون رضاها عن أدائهم لواجبهم المدرسي.

لسنا هنا بصدد الدفاع عن المجموعات وربما تكون برأي البعض المجموعات الأسوأ في تاريخ الشعر, وعلى رأسها مجموعتي, ونحترم هذا الرأي, كما لا يسعنا المجال هنا لتفنيد أقوال تهامة حول التجارب معتمدين على أصول النقد الأدبي ومستشهدين بمقاطع أو قصائد من المجموعات, لكن ما نريد قوله هو إن هذه الطريقة الديكتاتورية والنرجسية في التعامل مع النصوص الإبداعية, وهذه الطريقة في النقد, تجعلنا نتسائل بحق إلى أي درك وصل الأمر ببعض كتابنا وناقدينا من عدم احترام الشعر والقيمة الفنية للعمل الإبداعي. وإلى متى سيستمر هذا الانحدار الثقافي والنقدي المتواصل يوما بعد يوم؟ إلى متى؟.

يجدر بي أخيرا أن أعبر مرة أخرى عن استغرابي, فما نعرفه عن تهامة وما نحمله لها من محبة ومن قيمة شخصية وإبداعية وثقافية عالية في بلادنا, يدفعنا حقا للعجب..
خليل صويلح : هل الشاعر مجرد حنجرة بصوت متفجّر؟
المصدر : خليل صويلح
09/01/2010
التطور الهائل الذي أصاب مفردات القصيدة العربية الجديدة وأشكالها التعبيرية لجهة المكاشفة والاعتناء بماهو حميمي وذاتي وتسجيلي ربما، لم يرمم على صعيد التلقي، إذ ظل في منطقة قديمة لا تتناسب مع معطيات التلقي التي أفرزتها الميديا الجديدة على وجه العموم، فقصيدة تعتني بالمشهدية والنبرة الخفيضة وأسباب العزلة، والانطواء في

حيّز ضيّق للكائن، لم تجد من ينصت إليها بوسائل وآليات تتناسب مع توجهاتها لإيصال شحنتها الجمالية من دون عطب.
هكذا نذهب إلى مهرجان شعري ما، فنجد وسائل الخطابة عينها، تلك التي تليق بأغراض الشعر القديم من مديح وهجاء ورثاء.
يصعد الشاعر إلى المنصة فينفخ في بوق ليس من أدواته، أو أنه مضاد لمحتوى القصيدة نفسها، يهتف الشاعرعالياً بما هو هامس في الأصل، على أمل شد الجمهور إلى مكابداته، جرياً على عادة شاعر الهتاف والصراخ وكسب الجمهور بتصفيق غوغائي يتناسب طرداً مع انفجار حنجرته بالصوت، وليس بالصورة البلاغية المغايرة أو الالتقاطة الخاطفة لعبارة منزوية في الظل وإعلاء شأن حضورها وفرادتها في متن النص. هكذا نجد أن معظم الشعراء «خانوا» قصائدهم ومناخاتها الخاصة في تواطؤ مكشوف مع الجمهور، على أملٍ بتصفيق ما.
مأزق التلقي الذي تواجهه القصيدة اليوم في نسختها الحداثية، يحتاج إلى وسائل أخرى لاستقبالها غير المنبر التقليدي، فهذا المنبر- الميكرفون والمنصة العالية- هما أداتان للخطابة في المقام الأول، ذلك أن القصيدة الجديدة تتخلى طوعاً عن أسباب تمكين وجودها، فبدلاً من خلخلة التلقي، تقوم بمجاراة الذائقة التقليدية، من دون نجاحٍ يُذكر.
لننظر أولاً إلى طبيعة المكان: الجمهور «تحت» والمنصة«فوق» وتالياً، فهذه مقدمة أولى وصريحة لأسباب القطيعة بين المرسل والمُرسل إليه، إذ تعمل القصيدة اليوم على ردم المسافة بين الشعر والمتلقي وإذكاء لحظة ديمقراطية في الكتابة، طالما أن الشاعر لم يعد ممثلاً للقبيلة، أو هكذا يُفترض.
الشعر اليوم يتسلل إلى كل مكان في الشارع والحافلة والمول والمترو، كما أن وسائل الميديا الجديدة أتاحت وسائل نشر سهلة لإيصال نصوص أناس مجهولين وجدوا في الشعر هويتهم المنهوبة، وأناهم المغيّبة، ما أفقد الشاعر مكانته الخطابية القديمة. وعلى هذا الأساس، فإن المنبر بوضعه الراهن، يضع النص الجديد في غير مكانه ويعزز حضور المتلقي القديم بكامل أدواته، المتلقي ذلك الذي يسترخي في مقعده ويقوم بالتصفيق لا أكثر.
التصفيق ليس لصورة مبتكرة أعجبته، بل للمناخ الصوتي الذي اجترحه الشاعر في محاولاته المتكررة لإيقاظ قطيعية ما.
يكفي أن يصفق أحد ما لخلل ما في التلقي حتى تشتد حدة التصفيق الجماعي، ولكن من قال إن التصفيق دلالة على قوة الشاعر؟
التصفيق هو انتصار لفكرة خطابية في القصيدة، وليس انتصاراً لجماليات شعرية مباغتة.

في إحدى المهرجانات الشعرية التي استقطبت شعراء يكتبون قصيدة النثر، استل شاعر سبعيني قصيدةً ترفل بالأجراس الإيقاعية، وإذا بالجمهور الذي كان ينصت بإمعان إلى قصائد الشعراء الآخرين، يستيقظ على بهجة أخرى، كانت نائمة في الأعماق.
كانت تلك القصيدة محمولة على رطانة سياسية وحسب، لكن الجمهور الذي استعار ذائقة حداثية غير متأصلة في تربيته في تلقي الشعر، سرعان ما عاد إلى خندقه القديم غير آسفٍ على ما اقترحه شعراء اللحظة اليومية، وكأن ثلاثة عقود على الأقل، من الحداثة الشعرية العربية، لم تترك أثراً في المتلقي العربي، فهو سليل المنابر والتصفيق والتثاؤب.
كي نستعيد الشعر، ينبغي أن نبحث عن وسائل جديدة لإيصاله، تعتمد المشهدية وما هو بصري ومؤثر، بحيث يصبح الشاعر جزءاً من سينوغرافيا المكان، وليس مجرد مرسل إلى حاسة السمع وحدها لدى المتلقي.
علينا أن نوقظ الحواس الأخرى لاستقبال القصيدة كما يليق بتطلعاتها الجديدة.
المنصة بشكل ما هي الوجه الآخر لصورة الشاعر الذي كان يقف على الأطلال، أو ذاك الذي كان يتهيأ لغزو سوق عكاظ في الجاهلية الأولى بحاسة السمع وحدها.

الاثنين، 4 يناير 2010

حوار مع الشاعر محمد المطرود

الشاعر محمد المطرود .... الكتابات النقدية مرتبطة بلوبي شعري متحكم متسلط



رسم بالكلمات
الأثنين 4-1-2010
حوار : إبراهيم حسو

أصدر الشاعر السوري محمد المطرود مواليد القامشلي 1970 مجموعتين شعريتين ( ثمار العاصفة 1997) و( سيرة البئر 2005 ).

كان هذا الشاعر خلال هاتين المجموعتين يقدم مشاهداته الخاصة للعالم الخارجي, و الأشياء و الناس والمحيط الدلالي الذي يدور حوله مجمل نتاجه الشعري و يقترح رؤى جديدة لمستقبل قصيدة النثر في سورية فنصّه ( سيرة البئر ) كان نتاجاً معرفياً و بلاغياً , ليذهب محمد بعدها إلى الحفر في اللغة والتكوين الرؤيوي, ليقول قصيدة مثقفة تتشاكل مع فعل حياته و تتكاثف اللغة عنده, لتتحول إلى ميدان التحولات و التجذرات بدءاً من الصورة و انتهاءً بالتخييل. نصوصه قائمة على التذكر و تسجيل إحساساته المرعبة تجاه الكون و الإنسان.. باختصار نص محمد المطرود يشبهه كما يقول في هذا الحوار الذي يدور حول نصوصه الأخيرة ( سيرة البئر ) و حول مستقبل قصيدة النثر في سورية .:‏

* أريد أن ابدأ معك الحوار حول اختيارك قصيدة النثر في معظم نتاجك الشعري الذي امتد على مجموعتين شعريتين كان آخرها (سيرة البئر ) و بعد هذه المجموعة توقفت عن نشر الشعر, لتتفرغ لكتابات نقدية متفرقة في الصحافة السورية , لماذا قصيدة النثر ؟‏

** أولاً شكراً على دقتك «توقفت عن نشر الشعر» ولم تقل توقفت عن الشعر، فأنا في الفترة المعطلة نشراً, كنت أعمل على نصي الشعري الجديد، ثمان سنوات فصلت بين عملي الأول والثاني سيرة بئر, ثم مايقارب الخمس بين الثاني و( مايقوله الولد الهاذي ) ومع أن كتابتي النقدية تأتي في الفترة التي أتخلص فيها قليلاً من لوثة القصيدة، فإن الفترة التي يطيب للبعض تسميتها فراغاً أو استراحة محارب, لم تكن عندي كذلك ،بل هي اشتغال إبداعي آخر أو موازٍ يبزه، عموماً أنا أطمح لتأسيس نص مثقف /موار/متغير، وكما يقول نزيه أبو عفش بما معناه: « الله الشاعر متغير أو يجب عليه أن يغيره باستمرار» معرفة وتضاداً في اللون والبديهيات تساوقاً مع بورخيس: « أن نرى في الموت حلماً، وفي غروب الشمس حزناً ذهبياً ،هذا هو الشعر» .‏

* ولماذا قصيد النثر لتسم منجزك الشعري؟ بمعنى هل كانت وفية لك لتنحاز إليها كلياً؟‏

** في قصيد النثر تتمظهر الحرية بشكلها الحقيقي، بمعنى أن هناك المسؤولية الأخلاقية والأدبية تجاه النص، ومايسمىَّ تحرراً من الوزن،أو انفلاتاً لايخلق شعرية مالم يكن الفهم الدقيق لوجهات قصيدة النثر, وامتلاك الذكاء في إدارة اللعبة الشعرية, وربما هيدغر وضَّح عندما دعا إلى اللعب, ولكن بتيقظ شديد، برأيي: التيقظ هو معادل طبيعي لما يتمسك به قارئ كسول من أسبقيات يقرأ وفقها، أنا انزاح إلى قصيدة النثر لكن هذا لايعني بأني سأراهن عليها إلى مالانهاية‏

* أعود إلى ( سيرة البئر ) تلك المجموعة التي لم تعلن عن نفسها إعلاميا بما فيه الكفاية, رغم بعض الكتابات النقدية القليلة التي لامست أطرافها دون أن تتوغل في عميق جذورها الإبداعية و الروحية, بل ذهبت تلك الكتابات إلى إلصاقها بمعايير نقدية هي بريئة منها, السؤال و بعد مرور 5 سنوات تقريبا على سيرة بئر هل ترى أن النقد أنصف تجربتك الشعرية ؟‏

**سيرة بئر حظيت بنصيب وافر من الدراسات والقراءات الصحفية،على عكس مارأيته أنت, لكن أوافقك بأن أكثرها لم يلامس حواف البئر من الداخل، لست حزينا لأن النقد لم ينصفني حالي حال الكثيرين، وربما أنت أحدهم ،غير أن ماأريده ألا تمر التجربة أيا كانت مرور الكرام دون محاكمتها وإضاءتها، فالنقد يكرِّس، وعندما يتخلى عن مهمته، فإن الإبداع بأرقى حالاته يكون رهن الصدفة، أعني الكتابة المختلفة /المغايرة سيختلط حابلها بنابل الكتابة غير المسؤولة.‏

* تكتب القصيدة ( النثرية ) اليومية القصيرة و أحياناً قليلة ( التفعيلة ) و أعتقد أنك تجد نفسك في القصيدة الملحمية الطويلة ذات النفس الرؤيوي التي تجتزئ الصورة و الكلمة و تترك للمعنى حرية التكوين و التأويل الممتحنين, في أي طريق يتجه محمد المطرود بشعريته ؟‏

** لم أستطع أن أخلص للفراهيدي، رغم توفر السليقة بحكم بيئة أنتمي إليها، بل يممت وجهي مساحة ملتبسة فيها التكثيف والإيقاع غير الممنهج, والغنائية المستترة، كان هذا هو السطر الذي بدا نثرياً الأجمل على حد تعبير باسترناك، ورأيت أن نصاً طويلاً يحملني على جناحيه الخرافيتين، ويعبر بي إلى الرواية التي طالما حلمت بكتابتها, أفضل لي وأجدى, لهذا ضمنت المكان الذي تفترضه الروايةُ قصيدتي، بشكل مخاتل مايخلق الرؤية والرؤيا، وعليه فالزمنية الطويلة بين كتابة نص وآخر تكون هاضمة لتراكمات وويلات وأفراح, وهنا يصير لزاماً َ أو يفرض عليَّ كتابة نص متعب في ولادته ومتعب للقارئ إلى حد ما, من غير أن أفكر كثيراً بالشكل لحظة الكتابة الأولى، لكن فيما بعد، أجلد نصي إلى أن أدميه أو حتى أمسخه، وهذا جوهر خلافي مع الأصدقاء الذين يقرؤون لي، بأني أخرجه من تلقائيته وروحه الأولى.‏

* في ( سيرة بئر ) تتحول بنية المعنى إلى فضاءات سردية، تهيمن على السياقات الشعرية أقصد الطابع الحكائي مثل نص ( أضيق حزناً بالمكان ) حيث تضيق المسافة بين الشعري و النثري, و بين القصيدة و الحكاية؟‏

سؤالك يرتبط بالآنف, ليست هي بنية المعنى فقط, والاشتغال أيضاً, إذ إن فهماً دقيقاً للغة يجعل من السردي متعالقاً مع الشعري ومشتبكاً معه، الدخول على اللغة ومكاشفتها يعني ماطمحت إليه في القصيدة، وبث السير- ذاتي ليلقي بظلاله على الشكل بكليته، وأنت قلت تضيق المسافة, ولم تقل تختفي، وهذا يكفي بالنسبة لي، لأقول إن تحييراً للمتلقي يتم ،مايترك لديه انطباعاً قوياً بالاشتغال المتحصل, والناشل للشعري من النثري ....وكفى المؤمنين شرف المحاولة .‏

* لديك نظرة نقدية في المشهد الشعري السوري (التسعينات) تحديداً عبر كتابات متفرقة في الصحافة المحلية, أو عبر كتاب نقدي أنت بصدد طباعته قريباً, كيف تجد اليوم و نحن ندخل الألفية الثالثة هذا المشهد و مستقبل النقد ؟؟‏

** هل ستفاجأ إذا قلت: الشعر السوري بخير؟!‏

بالنسبة لشعراء التسعينيات فقد ظلموا، ففترة تبلورهم حظيت بتبدلات حياتية هائلة، ماجعل الشعر والثقافة, ولنقل الحياة نفسها في شهوة أقل, وقابلية استمرارأقل، على عكس الأجيال السابقة ،مافتح الباب أمام المواهب الأقل أيضاً تماشياً مع المفرز الجديد ،وغياب الحقيقي والمختلف لهيمنة ذائقة معطوبة، تقتل تحت مسميات كثيرة, ثم إن غياب النقد والمنهجية زاد الأمر سوءاً، و ما نقرؤه هو نقد صحفي انطباعي لايؤسس لحالة, ولايلغ حالة غير مستحبة، الشاعر السوري له حضور، لكن الحاضنة /المؤسسة التي يجب أن تحتفي به ليست حاضرة, على الأقل في الوقت الراهن..لنا أمل بالمستقبل، ونحن محكومون به - رحم الله سعدالله ونوس -.‏

* معظم الكتابات النقدية التي تتناول الشعرية السورية تتجه اليوم نحو تجاهل التجارب الجديدة, و يستحيل أن تجد قلماً نقدياً يتناول تجربة شعرية شابة متميزة ؟؟‏

** الكتابات النقدية على ضآلتها وقصورها مرتبطة أصلاً بلوبي شعري متحكم متسلط, لأنها كما أسلفت غير ممنهجة، مزاجية، محسوباتية، واللوبي تتناهبه أطراف ثلاثة: اتحاد الكتاب العرب, ووزارة الثقافة المتبنية للحداثة وقصيدة النثر وتخندقها لصالحها، بمحاربين لهم الذائقة ذاتها، والعمل على تقديم جديد حسبه أنه جديد دون أن يمتلك المشروعية الكافية ليتم الرهان عليه, وتقديمه على أنه الأفضل, أما الطرف الثالث فهو الذي يعتبر نفسه مغبوناً فاته قطار الاتحاد, ولم يلحق بميكروباص الثقافة، طرف متأزم غير قادر على إدارة أزمته, وهكذا ترى النقد يقدم أسماء محددة جداً أو (يلمِّع) وهذه الأسماء المرتاحة، ستخاف على نفسها, والجديد لن يمر من (خرم إبرتها) إلا بمعجزة مع العلم أن عهد المعجزات انتهى.‏

* كيف يقرأ الشاعر محمد المطرود مستقبل الصحافة الثقافية في سورية و حال الأقلام الثقافية الشابة التي تحاول اقتحام المشهد ؟‏

** بالنسبة للمستقبل لا أملك النبوءة لأقرأه، الصحافة الثقافية في سورية حاضراً ليست كما يجب, هناك سلطة للأسماء لا للمنتج، وإلى الآن وباستثناءات قليلة، فالصحافة الثقافية عاجزة عن إثارة إشكاليات, ومواضيع ذات حساسية لتحريك الراكد ومحاكمة المشهد، ويمكن بسهولة إجراء مقارنة بينها وبين الصحافة اللبنانية مثلاً أو المصرية أو الكويتية ليكون السبق للأخرى! والعلة برأيي تكمن في عدم وجود الجرأة الكافية مع أن انفتاحاً واضحاً تم لصالح الفعل الثقافي، ثم إن من يرى الكتّاب السوريين وغزوهم للصحافة العربية, سيتأكد بأن المرض في القائمين على المنبر الثقافي، وجهلهم بما يحصل، وإلا ما معنى أن ترفض المادة في صحيفة سورية لأنها (over) ثم تنشر في صحيفة خليجية، وتقرأ في سورية ،دون أن تخرب الدنيا! الأقلام الشابة فاقدة لفعل الأمر، ليست صاحبة الشأن، وفاقد الشيء لا يعطيه, وبذلك هي تقترب أو على وشك من الأقلام (المختيرة) .‏

محمد المطرود شاعر وناقد و عضو اتحاد الصحفيين السوريين. من إصداراته: ثمار العاصفة 1997 شعر, و سيرة بئر 2005 شعر, و أيضاً ما يقوله الولد الهاذي 2009 شعر‏

عن مستقبل الشعر والحلم - دراسات - كتاب مشترك مع كتَّاب من الوطن العربي - صدر في المغرب‏

مخطوط : سلطة المثقف – دراسات -‏

نهب الآخر - نصوص -‏

يكتب في الدوريات السورية والعربية .‏

الأحد، 3 يناير 2010

إلا إذا

2010

أشياء كثيرة أريدها منكِ أيتها السنة الجديدة: طموحات تتحدى سقف الممكن الواطئ، معجزات حرّة من رادع المنطق الضئيل، حاجات لا تقف عند حاجز الترف الوهمي، ومشاريع وآفاق لا تهددها، ولا تحطّ من عزيمتها، تهمة الجشع...
أشياء كثيرة أريدها، أقول وأردّد، عالياً وبوضوح، ولا غضاضة. بل أنا فخورة بطمعي، ومرتاحة معه، وفيه. ولكن، لا أنتِ ستكونين كريمة معي، على الأرجح، ولا أنا أظنني استحق كل ما أشتهي. لأجل ذلك سأحاول أن أكون عقلانية، وألاّ أطالبكِ بالمستحيل الذي يسكنني وسيظلّ، بمعزل عن قدراتكِ المحدودة وواقعيتي المزعجة.
هاكِِ إذاً يا سنة 2010 لائحة (بعض) توقعاتي منك، أقلّه تلك التي تحتمل الافصاح والاعلان:
أطالبكِ أولاً، وبأنانية منزّهة من شبهة الحرج، بأن تحفظي لي ولديَّ وعائلتي الصغيرة. إحفظي جيداً جداً هذا الطلب الذي لا رجوع لي عنه أياً تكن الأثمان، فهو شريان حياتي، وأحد مفاتيح قوتي الروحية. اجعليه شرياناً متدفقاً، وفعلاً متحققاً، بل قوةً منيعة، قادرةً على جبه المشقات والتحديات. واجعليه أعجوبة ينبوع متجدد لأتمكن من مواصلة السير في العاصفة، الى حيث يجب أن تصل كل أمومة.
أطالبكِ ثانياً، ببلادٍ تكون هي البلاد التي أنتمي اليها بقوة الاختيار، لا فقط بقوة الأمر الواقع وسجلّ القيد والهوية. أطالبكِ ببلادٍ تكون بيتاً للأمان لا للخوف والقلق العبثي، وبيتاً للأمل لا لليأس الإرهابي، وبيتاً للحرية لا للعبودية، وبيتاً للحياة لا للموت. بلادٌ كهذه البلاد، هي وحدها مطلبي وبلادي. وأريدها أن تكون هنا، فلا تبخلي عليَّ بهذا المطلب. وويلٌ لكِ، ولنا، أيتها السنة الجديدة، إذا كنا سنظل مقيمين في العراء المخيف الذي نقيم فيه.
أطالبكِ ثالثاً، بالأحلام، أيتها السنة الجديدة. حقّكِ عليَّ أن أحلم، وأن يكون كلّ حلم برهاناً كاملاً على قوة الخلق. وحقّي عليكِ أن ترعَي هذه الأحلام، وأن تتعهديها، وأن تحوطيها بما ينبغي للأحلام أن تُحاط به، ثم أن تعامليها بما تستحقّ من العناية، لكي عندما تبصر النور تجد طريقها الى التحقق المتخلص من التشوّه والعيب، فيكون هذا التحقق لا مكسباً شخصياً لي فحسب، وإنما لنا جميعاً. للناس. وللبلاد. ولكِ خصوصاً أيتها السنة الجديدة.
أطالبكِ رابعاً، بالوفاء. وهو الصدق. فلا تغدري. ولا تكوني مرائية. فليس أسوأ من الغدر. ولا أسوأ من الصدق الكاذب.
أطالبكِ خامساً، بالصداقة. بالوفية منها. والنبيلة. والمعطاء. وخصوصاً الصداقة المغسولة أيديها من كل نفاق وكذب ورياء ومصلحة ومؤامرة وانتهاز ورخص وسمسرة وطعن في الظهر والصدر.
أطالبكِ سادساً، بالحرارة. فإياكِ والفتور. وإذ أطالبكِ بهذه الحرارة، فلأنكِ قد تقعين في التحفظ منذ اليوم الأول. فإياكِ والإهمال. أو التردد. أو الـ بين بين. أو على طريقة الرِّجل في البور والرِّجل الثانية في الفلاحة. لا تخافي أن تكوني فاقعة. ووقحة. ولا تخشي البراكين ولا الثلوج، ولا "التطرّف" الذي فيهما، فهما أقلّ سوءاً من "ربيع" المراوحة والتؤدة.
أطالبكِ سابعاً، بالحب. بأكثره بأعمقه بأشدّه عصفاً وجنوناً وذهاباً فيه حتى الى الموت. فلا تخافي أيتها السنة الجديدة. لا تخافي الحبّ المفضي الى حيث لا رجوع. وإياكِ والحبّ على طريقة "الرائج" منه في غالبية الحيوات الزوجية.
أطالبكِ، أخيراً وليس آخراً، بالشعر أيتها السنة الجديدة. بالشعر أطالبكِ في القلب، في العينين، في الابتسامة، في العيش وفي الكتابة. لأنه هو ملاذي الأوحد، والأعظم، في وجه خيباتكِ الأكيدة.

جمانة حداد
(joumana.haddad@annahar.com.lb