السبت، 9 يناير 2010

خليل صويلح : هل الشاعر مجرد حنجرة بصوت متفجّر؟
المصدر : خليل صويلح
09/01/2010
التطور الهائل الذي أصاب مفردات القصيدة العربية الجديدة وأشكالها التعبيرية لجهة المكاشفة والاعتناء بماهو حميمي وذاتي وتسجيلي ربما، لم يرمم على صعيد التلقي، إذ ظل في منطقة قديمة لا تتناسب مع معطيات التلقي التي أفرزتها الميديا الجديدة على وجه العموم، فقصيدة تعتني بالمشهدية والنبرة الخفيضة وأسباب العزلة، والانطواء في

حيّز ضيّق للكائن، لم تجد من ينصت إليها بوسائل وآليات تتناسب مع توجهاتها لإيصال شحنتها الجمالية من دون عطب.
هكذا نذهب إلى مهرجان شعري ما، فنجد وسائل الخطابة عينها، تلك التي تليق بأغراض الشعر القديم من مديح وهجاء ورثاء.
يصعد الشاعر إلى المنصة فينفخ في بوق ليس من أدواته، أو أنه مضاد لمحتوى القصيدة نفسها، يهتف الشاعرعالياً بما هو هامس في الأصل، على أمل شد الجمهور إلى مكابداته، جرياً على عادة شاعر الهتاف والصراخ وكسب الجمهور بتصفيق غوغائي يتناسب طرداً مع انفجار حنجرته بالصوت، وليس بالصورة البلاغية المغايرة أو الالتقاطة الخاطفة لعبارة منزوية في الظل وإعلاء شأن حضورها وفرادتها في متن النص. هكذا نجد أن معظم الشعراء «خانوا» قصائدهم ومناخاتها الخاصة في تواطؤ مكشوف مع الجمهور، على أملٍ بتصفيق ما.
مأزق التلقي الذي تواجهه القصيدة اليوم في نسختها الحداثية، يحتاج إلى وسائل أخرى لاستقبالها غير المنبر التقليدي، فهذا المنبر- الميكرفون والمنصة العالية- هما أداتان للخطابة في المقام الأول، ذلك أن القصيدة الجديدة تتخلى طوعاً عن أسباب تمكين وجودها، فبدلاً من خلخلة التلقي، تقوم بمجاراة الذائقة التقليدية، من دون نجاحٍ يُذكر.
لننظر أولاً إلى طبيعة المكان: الجمهور «تحت» والمنصة«فوق» وتالياً، فهذه مقدمة أولى وصريحة لأسباب القطيعة بين المرسل والمُرسل إليه، إذ تعمل القصيدة اليوم على ردم المسافة بين الشعر والمتلقي وإذكاء لحظة ديمقراطية في الكتابة، طالما أن الشاعر لم يعد ممثلاً للقبيلة، أو هكذا يُفترض.
الشعر اليوم يتسلل إلى كل مكان في الشارع والحافلة والمول والمترو، كما أن وسائل الميديا الجديدة أتاحت وسائل نشر سهلة لإيصال نصوص أناس مجهولين وجدوا في الشعر هويتهم المنهوبة، وأناهم المغيّبة، ما أفقد الشاعر مكانته الخطابية القديمة. وعلى هذا الأساس، فإن المنبر بوضعه الراهن، يضع النص الجديد في غير مكانه ويعزز حضور المتلقي القديم بكامل أدواته، المتلقي ذلك الذي يسترخي في مقعده ويقوم بالتصفيق لا أكثر.
التصفيق ليس لصورة مبتكرة أعجبته، بل للمناخ الصوتي الذي اجترحه الشاعر في محاولاته المتكررة لإيقاظ قطيعية ما.
يكفي أن يصفق أحد ما لخلل ما في التلقي حتى تشتد حدة التصفيق الجماعي، ولكن من قال إن التصفيق دلالة على قوة الشاعر؟
التصفيق هو انتصار لفكرة خطابية في القصيدة، وليس انتصاراً لجماليات شعرية مباغتة.

في إحدى المهرجانات الشعرية التي استقطبت شعراء يكتبون قصيدة النثر، استل شاعر سبعيني قصيدةً ترفل بالأجراس الإيقاعية، وإذا بالجمهور الذي كان ينصت بإمعان إلى قصائد الشعراء الآخرين، يستيقظ على بهجة أخرى، كانت نائمة في الأعماق.
كانت تلك القصيدة محمولة على رطانة سياسية وحسب، لكن الجمهور الذي استعار ذائقة حداثية غير متأصلة في تربيته في تلقي الشعر، سرعان ما عاد إلى خندقه القديم غير آسفٍ على ما اقترحه شعراء اللحظة اليومية، وكأن ثلاثة عقود على الأقل، من الحداثة الشعرية العربية، لم تترك أثراً في المتلقي العربي، فهو سليل المنابر والتصفيق والتثاؤب.
كي نستعيد الشعر، ينبغي أن نبحث عن وسائل جديدة لإيصاله، تعتمد المشهدية وما هو بصري ومؤثر، بحيث يصبح الشاعر جزءاً من سينوغرافيا المكان، وليس مجرد مرسل إلى حاسة السمع وحدها لدى المتلقي.
علينا أن نوقظ الحواس الأخرى لاستقبال القصيدة كما يليق بتطلعاتها الجديدة.
المنصة بشكل ما هي الوجه الآخر لصورة الشاعر الذي كان يقف على الأطلال، أو ذاك الذي كان يتهيأ لغزو سوق عكاظ في الجاهلية الأولى بحاسة السمع وحدها.