الجمعة، 1 يناير 2010

نص شعري مشترك

الألمُ حركةً
نص مشترك
عبد الرحمن عفيف
إبراهيم حسو


يجبُ أن تهبي لي نفسك كلَّها، كي لا أتعذب، و لا يبقى لديك أيةُ إشارة لغيري.
يجب أنْ ينفتح وجهكِ، وتخرج الشمس التي تعذبني في اليقظة، حين تضحكين،
والقمرُ الأبيضُ الجميلُ القاعد تحت قدميك الرقيقتين بخوف. أنتِ مليئة بالارتعاش البارد.
قلبُكِ تحتَ يدي كأنه عصيرُُ، يأخذه فمي، مبكراً، أو متأخراً، وأنتِ تدرين أنَّ خوفك ينتشر على سهول الشعر المخيفة,
تعرفين أن هاتين اليدين اللتين تقبلان أنفك، والغموض الناحل تحت جفنيك، هما يدا قشٍّ؟
أتدرين أنَّ جسدك الناحل القويَّ قليلاً، المرغوب فيه، المشتهى في الأبدية ضريحُُ ما؟؟
أنت تخافين حقاً، حين أتكلم عن الأضرحة، أنت لا تنظرين إليّ حين أبدو هكذا حزيناً، وأقول لك
إنني مشتاقُُ إلى أمي، وأنني أمتلئ الآن بالدموع، بينما أنظرُ إلى صورك قبل عدة سنوات ، خبَّأتها بقوة كي تفجري قلبي تحت أرجل كراسي مطبخك الواسع كصالة رسم.
أنت جميلةُُ، كأنّكِ امرأة موميائية ، نسيتْ لغتها، وجاءت إلي لأعلمها الحب.
أنتِ غارقةُُ في أحلامي، كأنك في مستنقع من الأزهار والريح.
أنت اضطراب الأزرق البذئ ,
أنت العظمة الدفينة في ارض مخبأة
بين شقوق كتاب طفل لا يسمع ولا يتنفس سوى بالكلمات الباردة.
أنت كلمات باردة منتقاة بحذر السحرة
الذي ينتظرون الفجر مثلي ويكتبون مايتركه الظلام
لأطفال الظلام.
أنت
هنا دون أخوة يحاسبون الكواكب و الدببة السماوية الواقفة على كفك
دون صفات الأم التي تسهر على المروج الفولاذية
وتحرس حدائق الشعر شجرة متدلاة من فم متهور
متراخية تغمغم جيئة و ذهابا
ويخط الذهب المبعثر على مداخل الفجر العظيمة
لتعلو أصوات اللاهثين وراء الكتابة
وينهمر الخوف على درج الليل .
أنت واضحةُُ، وغبيةُُ، وجميلةُُ، لن تكفي السنوات كلها، أن تجعل مني شاعرا عنك،
وأنْ أنسى مستنقع الأزهار الذي غرقنا فيه مائة سنة.
أنت تتذكرين، كيف مرتِ الحُبارى والناقوسُ، والساعةُ تحت لغطنا المميت، مرري بلسانك
الفاتح تحت أسناني الصاخبة، وهي تعض الزمن، كي تبقي بجنبي، وحين تدق شجرة ما أو تدق نبتةُُ ما، وحين يحلُّ علينا الغرامُ بقوة، لا نعرف كيف نخبّيء زنابقنا وأيدينا ووجهينا في وجه واحد، في مشية واحدة مع الغابة، في ضحكةٍ واحدةٍ، تخرج عارية إلى الممر، كيف تضحكين؟ كيف تلقين بهذه الأشعة الفولاذية المتحركة على قلبي في الغيرة؟ هذا الولد المتراكض في حلم "عامودا"، وعلى طرقات يديكِ، الآن، تمسكينَه من قلبه بعنف قليلاً، وهو يأتي إليك، كأنّه يعرفك منذ عشرين عاماً، كما كتب إليك مرة، وكما أرسل إليك كلَّ رسله الطيور، التي كان يضربها البرد في كل اتجاه، وكما كان يتمسك بك، بفستانك، ويقبلك فجأة، كأنه رأى حلماً فيه يخسركِ خسراناً. كيف يفتح صندوق قلبه الزجاجي ذا المائة قفل والمئتي مفتاح؟ كيف يرمي ذكراك على الشارع، وينظر إلى الورود والشبابيك ودروب الغابات؟ كيف يمضي إليك ولا يجدك؟؟
أيتها العائلة، أيتها الغابة!
كيف يدنو منك مجازفاً وخائناً وكسولاً وعالماً أنك يجب أن تتركيه، عالماً أنه يفقدك كأنّما يفقد يديه وعينيه، ويجب أن يقف كبطل تحت صفوف من المشاريط؟؟
البرد
ها هنا لأول مرة
على العربات التي تجر الضباب
رائقا يصفر في سكنى الشعراء
الموصدين منذ أزل بين قصائدهم
و الذين لا يرون من النور سوى بلوره
ومن الريح حدوات الريح .
هنا
البرد
رائقا في براري العيون الشهوانية
مضيئا كنجم يفسد السماء
بالعتمة المالحة ويلمس حجر جسدي
كأنه يلمس أوراق الشوك المستيقظة دائما.
هنا
السر
فاقدا منزله الأبدي بين عين لا ترى
سوى أصيص ارض مغلقة و مشمعة بصمت غريق
هنا
الحياة
التي تنقلب بداهة إلى صفائح الشعر المهرهرة
والكلمات الطاهرة غيوما متفتحة.
والأرض المدلاة من فوق تصير حكمة مفخخة .
والشمعة الذاهبة في روحك غامضةُُ بعد الظهيرة، لسانك مفتاحُُ، وبقية دهن، ومخدةُُ، وقلبك مقهى الماء، وعيناك صاخبتان وكسولتان، والحب الذي يشرق منك هو أنت وكل جسدك غرام، وجسدك قبل شهر كان يأخذني بغفلة، وبغير غفلة، كان يأكل أنفاسي، وأنفاسي المتماوجة من ضغط السجائر، والوردة المضرجة بالرغبة تأكلني، أيضاً وحبك مخيف وحزين مرة ويناديني دائماً، كأنه موتي، وكأني ميت لا أسمعه، وأسمعه، وأبكي لأنه وحيدُُُ.
أنت وأنا، وأنت وأنا، وأنت وأنت...؟؟
كيف نمشي؟ يدي في يدك، أو عيناي على عينيك بقوة هذه الظهيرة، أيتها المرأة المجازفة بكل شهوتي إليها؟ كيف نمشي حين نرى أنفسنا عاريين، نقبض على أول وجع يمضي منا، ونحرك أنفسنا لنعلمَ أننا لم نفقدْ نفسينا إحداها في الأخرى، في بعضنا، وأننا في هذا السرير الليلي، طائران يبحثان عن قفص، كي يضربا بجناحيهما الممتلئين دماً بالقضبان، ويلتقيا، المنقاران ممتلئان دماً، الريش يضخّ دماً، والروح ممزقة إلى آلاف الآلام.
هنا
جسد كمثل الشهوة
لا غضب أملس ضارب في الأعماق
لا ارض قبالة الألم الذي يلتمع فيّ
كلما اجتزت الحنين
وصرت جزءا من إضلاعه
كلما قلبت اخضرار الجمر
وصرت لمعانه .
هنا يسقط الهواء على ماض قريب
فتستيقظ الشلالات من جهالتها الأبدية
ويبدأ السّر بأفعاله المضحكة
الكل هنا
نيام كالهواء ذاك
على مخدات حجرية مغموسة بالبرد ذاك .
مثل رشاقة الشعراء السوريالين
الذين عبرو روحك
وطوقوا نباتات عظامك
وضاءو الهواء الغريب في أنفاسك
وجعلوك أميرة بين قصيدة وأخرى
مثل صفاء الحجر
تخيلوك ثمرة الشعر الممنوحة عادة لأميرات الليل والرغبة .
ووجدوا فيك النقاء والرجس وصرت بلا خوف مرشدة الجحيم والإخلاص .
مثل رخاوة الصمت
وغطرسة الصوت
تفرجت على يد الحكمة وهي تقطع شريط الظلمة
وصفقت معهم _مع السوريالين _ صغار الموت
وهم يدحرجون الأرض نحو نهر اللذة
مثل الموت جميعاً
أنبتك الطيور الرقة وهي ترفرف عاليا عاليا بلغتها.
لا اذكر الطريق إلى جسمك
منذ متى وأنت بلا جسم
أين الحياة العابرة في كفك
والعمق الذي يدر الخوف والجمال من فمك.
لا اذكر
المكان الذي لمست فيه عينك
أية نغمة فولاذية كانت في طريقها إلى إذني
أية أنفاس كانت تدق بثقل أنفاسي المثقلة
لا اذكر
كيف تركت جسمك
دون أن أسد فجوات الألم
الذي احدثه جهازي المخلص لكل شاردة وواردة
من سفوحك .
سُمُّك الدموي هذا الذي أشربه يومياً، ويكسر أحلامي، ونومي كأنّما عقوبتي أتلذذها، وأنت تتكاسلين أن تفتحي يديكِ اليوم.
أنت غائبةُُ في صفيح كآبتي، وأتنفسك كأنما كنتِ لي صنماً في كهف عميق، كأنما كنتُ أقبّل صنماً،
كأنما كنتُ أحضن صنماً جائعاً، وكأنما أنا ميت على ساقيك المسيحيتين المضمختين بالصلبان، المضمختين بآلاف الرجال الذين غرقوا... عندك
وأنا جريحُُ أبدي،
أنتِ قفصُُ أبدي،
وقضبانك أبدية، وجسدك باردُُ ومخيفُُ، وقلبك باردُُ ومخيفُُ، ويلعنني في الصمت الأعمق، وأنا أبتهل إليك، كأنما كنتِ كنيسةً، أو محراباً من اللحم البشري.
لستِ حجراً،
لستِ طائراً،
أو نبتة كما كنت تسمّين نفسك،
أنتِ لبوة تفترس رأسي وقلبي. أنتِ أكلتِ قلبي... ثم استدرت، ولم تعرفيني.????
لأرى المدمنين على الحب، يحفرون حناجرهم بالقرب من الجسور، بالقرب من وحوش عزلة الكراسي والنباتات المزروعة تلقائياً هنا، أراهم مثلي يضحكون، أو يقرؤون خطوط جباههم التي اكتهلت قبل الأوان؛ يقرفصون هنا لآلاف الساعات، يدخنون الماضي، كأنّما ليسوا هم الذين أحبوا أمهاتهم بجنون، ثم أحبوا امرأة ما كان يجب أن يحبوها، أو كان يجب أن يرموا بأنفسهم في شهيق آخر، لكنهم فعلوا، لكنهم هكذا فرشوا مياه بواطنهم كمرآة ما، بغير خوف، وكانوا هكذا واسعين، ويشرقون، وكانوا هكذا غرباء، ويؤمنون بالضحية. قالوا نريد أن تعرفَ فينا النباتاتُ أسرارَها البشرية، البشر نريدهم أن يعرفوا جذورهم الشجرية، وقرابتهم إلى الطير، كانوا واسعين مثل سماء، بغير أن يزينوا قلوبهم بأي دواء، وصفاءٌ ما كان يرفرف على أيديهم، وهو يلوحون لغزالات دواخلهم أن ترعى في هذا الفضاء، مثل طفل أحبوا كل امرأة كانت تنظر إليهم ، وإذا ابتسمت إحداهنّ، كان غرامها يمزقهم لست سنوات طوال. نسوا أيديهم، ظنوها للتلويح والملامسة، وتقبيل الوجنات، نسوا عيونهم، ظنوها للترقب والترقرق في لحظات الحلم المخرب الجميل، وغنوا، ورقصوا بفمهم مثل ناي، ناموا وهم يتهامسون عن غد، عن شموع مرفرفة على الصور، كانوا شجعاناً كمثل فراشة، ربما ممتلئين بالخيال، مستعدين أن يختلقوا مائة شجار للدفاع عن مفهوم الوردة.
استيقظوا مبكرين جداً، أحياناً لينظروا في قلوبهم، صنعوا من أجفانهم صحوناً ملونة، ومن أصابعهم أوراقاً غائبةً، وتمددوا هكذا تحت الجسور، من يمر يحسبهم مأخوذين بطغيان المخدر وزبيبه، لكنهم يعرفون أنهم لن يستيقظوا أبداً، سيظلون ممددين وعيونهم مفتوحة، أياديهم مبسوطة وقلوبهم ملقاة هنا وهناك، عليها آثار غبرة ما، آثار كآبة لم يتصنعوها، إنما جاءت إليهم كضيف، هكذا، يلهج كل منهم باسم خاص به، يجده طائره، أو ربما أرضه، ربما بيته، ربما شيئا آخر غير هذه العزلة الفظيعة التي تمضغ قلوبهم، غير هذا الغبار البارد القليل الذي يملأ الآن جوانب روحهم، فلا يستطيعون النظر جيداً، إنهم علمُُ هناك، جمعهم شجرة قلوبهم ثورةُُ، غبارهم ماءُُ، عيونهم مرجُُ. كسالى قليلاً. لكنهم شبانٌ، لكنَّ أرجاء العالم كلِّه تدقُّ في بواطن أكفهم.
انهضوا أصدقائي.
????
تأخذينني وتجيئين بي إلى فمك الضعيف، كشمعة ونعيم، تتلونين بالغضب والحب، وأعرفك في غضبك كامرأة تحبني من عمقها، وفي الحب أيضاً أعرفك بجسدك المضيء، كغرفتك التي أشعلتها بالشموع ذات ليلة، ويلومونك، لأنهم لا يعرفونني، وأنت تلومينني لأنك تريدين أن تكوني في قميصي الليلي، بصمت تريدين أن تقضمي قلبي ورئتي، أن لا تبقي أية إلتفاتة لغيرك، في غضبك تصير اللحظات القليلة التي نملكها مستعبدة، وتصيرين سيدة في منتهى روحها، هل أشدّ على يد غضبك، وأقبّل فمك الجريح كثيراً كثيراً، وأصابعك التي تتوسل إليّ، حبك الذي يتوسل إلي، ولا أبالي به، كل منا يجري في زقاق؛ حبك الذي جرّحني بسكينه، وأنا الذي يقطر قلبي هنيهة هنيهة،
أنا السحابة التي حطت على يديك، وطلبتْ منك الماء والعشب، أنا الزهرة التي وضعت نفسها على شفتيك، وطلبت أن تقبليها، أنا وقتك الذي ترمينه في الكسل والنسيان، أنا الشارع الأبدي الذي يمر أمام أدراج منزلك، أنا الصحوة واللهو، أنا جسدك الأول والأخير، وحين تنامين، أنا الشمس التي وقفتْ في سريرك، ونامتْ سبعة أشهر على بطنك الألذ، أنا اليدان اللتان شدّتا الأزرار في قميصك الداخلي، وفي معطفك، وكنت ميتة من الابتسام والدهشة، أنا الذي شبهك بنفسه، ونام على يديك، واستيقظ على يديك، وجعلك شيئاً ما غامضاً يلهو بروحه، جعلك أدهى خسارة لنفسه، أنا من انشغل في مدّ وربط وحياكة كل هذه الأسرار، ووقف يتأمل، لم تعجبه كلها، كانت لا تناسب تماماً النار، فأشعل نفسه في أن يخسرك.
أنا الخارج للتو منك، لا يعجبك هذا بالتأكيد، أنت الخارجة مني للتو، لا يعجبك. أنت صيفُُ، أنت دراجة، أنت ورقة، أنت حبُُ، أنت شهوة، أنت طعام، أنت فاكهة.
أفتقد شفتيك بموت في هذه اللحظة، أفتقد بطنك وثدييك وظهرك بعظامه الظاهرة قليلاً، ساقيك البهيجين، ما تحت شفتيك، أنفك وأساه، غيوم وجنتيك وقدميك الفضيتين، أصابعك الخفيفة، أفتقد أن تقولي لي إنك تكرهينني، أو إنك لا يهمك كل هذا، أفتقدك كأني أُولد بدونك كل مرة، وكان ممكناً أن نولدَ سوية من بطن واحد، وروح شبيهة.
أفتقدك كأنك شمعة، أحرقت رقبتي، أحرقت أصابعي، وجعلتها شبيهة بالأحجار والنباتات، كأنك شمعةُُ أنارت صخبي وخوفي، وغنّتْ في سريري، وأدفأتني، أحرقت نفسها، وأحرقت قلبي في أسنانها، وأجدني هنا محترقاً بالتشبيهات التي أختلقها يومياً في سريري، وأجدني محترقاً جنب جسدك الذي كنتُ أحسبه ضعيفاً، وقلبكِ،
وأحتاج غطاء يُرمى على ماء جفوني،
وأحتاج رائحة الأزهار القديمة تنثر على كفي وجسدي الطويل،
وغمغمتك، وإستفاقتك صباحاً، وأحتاج جملة ما تذكرني أني عندك، وأن الهواء الذي نتقاسمه، هو الهواء الجميل الذي بقي في الغرفة من الليلة السابقة، أو من الشهر السابق، الهواء الذي مازالت ظلالُنا الماضية، ودهشتنا الماضية تتحرك فيه، وإقتراباتنا وحنيننا.
????

شاعران من سورية
عن جريدة الغاوون الشعرية العدد 22 كانون الاول2009